الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)} مضت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه؛ وانتهت بتلك النهاية، وفيها البشرى للمؤمنين المستضعفين المضطهدين كما كانت القلة المؤمنة يومذاك في مكة وفيه الدمار للظالمين المتجبرين الذين يشبه موقفهم موقف المشركين. فالآن تتبعها قصة إبراهيم عليه السلام وقومه. ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتلوها على المشركين. ذلك أنهم يزعمون أنهم ورثة إبراهيم، وأنهم على دينه القديم؛ وهم يشركون بالله، ويقيمون الأصنام لعبادتها في بيته الحرام، الذي بناه إبراهيم خالصاً لله.. فاتل عليهم نبأ إبراهيم ليتبينوا منه حقيقة ما يزعمون. والقصص في هذه السورة لا يتبع الخط التاريخي، لأن العبرة وحدها هي المقصودة. فأما في سورة الأعراف مثلاً فقد كان الخط التاريخي مقصوداً، لعرض خط وراثة الأرض، وتتابع الرسل من عهد آدم عليه السلام فمضى القصص فيها يتبع خط التاريخ، منذ الهبوط من الجنة، وبدء الحياة البشرية. والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم عليه السلام هي حلقة الرسالة إلى قومه، وحواره معهم حول العقيدة، وإنكار الآلهة المدعاة، والاتجاه بالعبادة إلى الله. والتذكير باليوم الآخر. يعقب هذا مشهد كامل من مشاهد القيامة، يتنكر فيه العباد للآلهة، ويندمون على الشرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه. كأنهم قد صاروا فعلاً إلى ما هم فيه! وهنا عبرة القصة للمشركين.. ومن ثم يتوسع في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد، وفساد عقيدة الشرك؛ ومصير المشركين في يوم الدين. لأن التركيز متجه إليها. ويختصر ما عدا ذلك مما يفصله في سور أخرى. وقد وردت حلقات من قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة، والأنعام، وهود، وإبراهيم، والحجر، ومريم، والأنبياء، والحج. وكانت في كل سورة مناسبة لسياقها العام. وعرض منها ما يتفق مع موضوع السورة وجوها وظلها. عرضت في سورة البقرة حلقة بنائه للبيت هو وإسماعيل، ودعائه أن يجعل الله البلد الحرام آمناً، وإعلانه أن وراثة البيت ووراثة بانية إنما هي للمسلمين، الذين يتبعون ملته، لا لمن يدعون بالنسب وراثته. وكان هذا بصدد مخالفات بني إسرائيل، وطردهم ولعنهم، وتوريث دين إبراهيم وبيته للمسلمين.. وعرضت كذلك حلقة محاجته للملك الكافر في صفة الله الذي يحيي ويميت، والذي يأتي بالشمس من المشرق، وتحديه للملك أن يأتي بها من المغرب. فبهت الذي كفر. كما عرضت حلقة طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وأمره بذبح أربعة من الطير، وتوزيع أشلائهن على الجبال، ثم إحياؤها بين يديه، فجاءت تسعى إليه. وهذا وذلك في معرض الحديث في السورة، عن آيات الله وقدرته على الإماتة والإحياء. وعرضت في الأنعام حلقة بحثه عن ربه، واهتدائه إليه، بعد تأمل في النجوم والقمر والشمس، وتتبع مشاهد الكون. وكان ذلك في السورة التي تدور حول العقيدة، وآيات الله في الكون، ودلالتها على الصانع المبدع الذي لا شريك له. وعرضت في سورة هود حلقة تبشيره بإسحاق، وكان ذلك في سياق قصة لوط، ومرور الملائكة المكلفين تدمير قريته في طريقهم بإبراهيم. وفيها تبدو رعاية الله للمختارين من عباده وتدمير الفاسقين. وعرضت في سورة إبراهيم حلقة دعائه بجوار البيت المحرم لمن أسكنه من ذريته بواد غير زرع؛ وحمده على أن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق؛ وطلبه إلى ربه أن يجعله مقيم الصلاة هو وذريته، وأن يقبل دعاءه، ويغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.. وكان سياق السورة كله هو عرض أمة الرسل؛ برسالة واحدة، هي التوحيد؛ وعرض المكذبين بأمة الرسل صفاً واحداً كذلك؛ وكأنما الرسالة شجرة ظليلة في هجير الكفر وصحراء الجحود! وعرضت في سورة الحجر الحلقة التي عرضت في سورة هود مع شيء من التفصيل، في صدد ذكر رحمة الله بعباده المؤمنين، وعذابه للعصاة المذنبين. وعرضت في سورة مريم حلقة دعوته في رفق لأبيه، وغلظة أبيه عليه، واعتزاله لأبيه وقومه، وهبة إسماعيل وإسحاق له. وذلك في السورة التي تعرض رعاية الله للمصطفين من عباده. وجوها كله تظلله الرحمة والود واللين. وعرضت في سورة الأنبياء حلقة دعوته لأبيه وقومه، وزرايته على أصنامهم. وتحطيم هذه الأصنام، وإلقائه في النار التي كانت برداً وسلاماً عليه بأمر الله، ونجاته هو وابن أخيه لوط إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وذلك في صدد استعراض أمة الرسل، ورعاية الله لهذه الأمة واتجاهها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس له شريك. ووردت في سورة الحج إشارة إلى أمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين.. {واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟}.. اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة؛ وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: {ما تعبدون؟}. {قالوا: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} ! وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبئ بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم! ويأخذ إبراهيم عليه السلام يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون؟ أو ينفعونكم أو يضرون} فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه! ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر؛ وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير: {قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}.. إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها! وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلاً باعتباره دون بحث؛ بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير. وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم على حلمه وأناته إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! {قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}.. وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم وهم آباؤه الأقدمون! وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم؛ وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون. واستثنى إبراهيم {رب العالمين} من عدائه لما يعبدون هم وأباؤهم الأقدمون: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}.. فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبدالله، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف؛ وقد يكون من عبدالله ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول، والدقة الواعية في التعبير، الجديران بإبراهيم عليه السلام في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق. ثم يأخذ إبراهيم عليه السلام في صفة ربه. رب العالمين. وصلته به في كل حال وفي كل حين. فنحس القربى الوثيقة، والصلة الندية، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة، وفي كل حاجة وغاية. {الذي خلقني فهو يهدين. والذي يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.. ونستشعر من صفة إبراهيم لربه، واسترساله في تصوير صلته به، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه. وأنه يتطلع إليه في ثقة، ويتوجه إليه في حب؛ وأنه يصفه كأنه يراه، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه.. والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد.. {الذي خلقني فهو يهدين}.. الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم؛ فهو أعلم بماهيتي وتكويني، ووظائفي ومشاعري، وحالي ومآلي: {فهو يهدين} إليه، وإلى طريقي الذي أسلكه، وإلى نهجي الذي أسير عليه. وكأنما يحس إبراهيم عليه السلام أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع، يصوغها كيف شاء، على أي صورة أراد. إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين. {والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين}.. فهي الكفالة المباشرة الحانية الراعية، الرفيقة الودود، يحس بها إبراهيم في الصحة والمرض. ويتأدب بأدب النبوة الرفيع، فلا ينسب مرضه إلى ربه وهو يعلم أنه بمشيئة ربه يمرض ويصح إنما يذكر ربه في مقام الإنعام والإفضال إذ يطعمه ويسقيه.. ويشفيه.. ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه. {والذي يميتني ثم يحيين}.. فهو الإيمان بأن الله هو الذي يقضي الموت، وهو الإيمان بالبعث والنشور في استسلام ورضى عميق. {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.. فأقصى ما يطمع فيه إبراهيم عليه السلام النبي الرسول، الذي يعرف ربه هذه المعرفة، ويشعر بربه هذا الشعور، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى.. أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين. فهو لا يبرئ نفسه، وهو يخشى أن تكون له خطيئة، وهو لا يعتمد على عمله، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئاً، إلا أنه يطمع في فضل ربه، ويرجو في رحمته، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة. إنه شعور التقوى، وشعور الأدب، وشعور التحرج؛ وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل. وهكذا يجمع إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة: توحيد الله رب العالمين. والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شؤون حياتهم على الأرض. والبعث والحساب بعد الموت وفضل الله وتقصير العبد. وهي العناصر التي ينكرها قومه، وينكرها المشركون. ثم يأخذ إبراهيم الأواه المنيب في دعاء رخي مديد، يتوجه به إلى ربه في إيمان وخشوع؛ {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}. والدعاء كله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض؛ ولا حتى صحة البدن. إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى؛ تحركه مشاعر أصفى. ودعاء القلب الذي عرف الله فأصبح يحتقر ما عداه. والذي ذاق فهو يطلب المزيد؛ والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد. {رب هب لي حكماً}.. أعطني الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة والقيم الزائفة، فأبقى على الدرب يصلني بما هو أبقى. {وألحقني بالصالحين}.. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين! {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}.. دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد، لا بالنسب ولكن بالعقيدة؛ فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيراً لسان صدق يدعوهم إلى الحق، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين إبراهيم. ولعلها هي دعوته في موضع آخر. إذ يرفع قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل ثم يقول: {ربنا واجعلنا مسلمين لك. ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم} وقد استجاب الله له، وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين. هي في عرف الناس أمد طويل، وهي عند الله أجل معلوم، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه. {واجعلني من ورثة جنة النعيم}.. وقد دعا ربه من قبل أن يلحقه بالصالحين، بتوفيقه إلى العمل الصالح، الذي يسلكه في صفوفهم. وجنة النعيم يرثها عباد الله الصالحون. {واغفر لأبي إنه كان من الضالين}.. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم عليه السلام من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى؛ وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة.. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في الله، ولا تقوم صلة بين فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة انبتت سائر الوشائج؛ وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة. {ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}.. ونستشف من قولة إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يوم يبعثون} مدى شعوره بهول اليوم الآخر؛ ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره. وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}. مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض، وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزناً {يوم لا ينفع مال ولا بنون}؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض؛ وهي لا تزن شيئاً في الميزان الأخير! وهنا يرد مشهد من مشاهد القيامة يرسم ذلك اليوم الذي يتقيه إبراهيم؛ فكأنما هو حاضر، ينظر إليه ويراه، وهو يتوجه لربه بذلك الدعاء الخاشع المنيب: {وأزلفت الجنة للمتقين. وبرزت الجحيم للغاوين. وقيل لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ فكبكبوا فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون. قالوا وهم فيها يختصمون: تالله إن كنا لفي ضلال مبين. إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون. فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين!}. لقد قربت الجنة وعرضت للمتقين، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين. ولقد كشفت الجحيم وأبرزت للغاوين، الذين ضلوا الطريق وكذبوا بيوم الدين، وإنهم لعلى مشهد من الجحيم يقفون. حيث يسمعون التقريع والتأنيب، قبل أن يكبكبوا في الجحيم.. إنهم يسألون عما كانوا يعبدون من دون الله وذلك تساوق مع قصة إبراهيم وقومه وما كان بينه وبينهم من حوار عما كانوا يعبدون إنهم ليسألون اليوم: {أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟} أين هم {هل ينصرونكم أو ينتصرون} ثم لا يسمع منهم جواب، ولا ينتظر منهم جواب. إنما هو سؤال لمجرد التقريع والتأنيب {فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون}.. كبكبوا.. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه. وإنهم لغاوون ضالون، وقد كبكب معهم جميع الغاوون. هم {وجنود إبليس أجمعون}. والجميع جنود إبليس. فهو تعميم شامل بعد تخصيص. ثم نستمع إليهم في الجحيم.. إنهم يقولون لآلهتهم من الأصنام: {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} فنعبدكم عبادته. إما معه وإما من دونه. الآن يقولونها بعد فوات الأوان! وهم يلقون التبعة على المجرمين منهم، الذين أضلوهم وصدوهم عن الهدى. ثم يفيقون فيعلمون أن الأوان قد فات، وأنه لا جدوى من توزيع التبعات: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} فلا آلهة تشفع، ولا صداقات تنفع.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)} كما رجع السياق القهقرى في التاريخ من قصة موسى إلى قصة إبراهيم، كذلك يرجع القهقرى من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. إن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب. وقصة نوح، كقصة موسى وقصة إبراهيم، تعرض في سور شتى من القرآن. وقد عرضت من قبل في سورة «الأعراف» في الخط التاريخي للرسل والرسالات بعد هبوط آدم من الجنة عرضاً مختصراً، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد، وإنذارهم عذاب يوم عظيم، واتهام قومه له بالضلال، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلاً منهم، وتكذيبهم له. ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل. وعرضت في سورة يونس باختصار كذلك في نهاية رسالته، إذ تحدى قومه فكذبوه.. ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك، وإغراق الآخرين. وعرضت في سورة «هود» بتفصيل في قصة الطوفان والفلك وما بعد الطوفان كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين. وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال حول عقيدة التوحيد. وعرضت في سورة «المؤمنون» فذكر منها دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم؛ ولو شاء الله لأنزل ملائكة، واتهامه بالجنون. ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته. وإشارة سريعة إلى الفلك والطوفان. وهي تعرض في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين وكذلك هي في هذه السورة وأظهر ما في الحلقة المعروضة هنا دعوته لقومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء وهذا ما كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة سواء بسواء ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه. واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين. {كذبت قوم نوح المرسلين}.. تلك هي النهاية. نهاية القصة. يبدأ بها لإبرازها منذ البداية. ثم يأخذ في التفصيل. وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحاً. ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين. فالرسالة في أصلها واحدة، وهي دعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبودية له. فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين، فهذه دعوتهم أجمعين. والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة، بصيغ متعددة، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية، تحتضن بها الدعوات جميعاً؛ وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين: صف المؤمنين وصف الكافرين، على مدار الرسالات ومدار القرون. وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير. وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين. وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعاً، ويحترم الرسل جميعاً، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد. إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان. إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل. وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل. في كل زمان وفي كل مكان. وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله؛ وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ. ترتفع فتصبح قيمة واحدة. هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوّم بها الجميع. {كذبت قوم نوح المرسلين. إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. فاتقوا الله وأطيعون}. هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه وهو أخوهم وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق. ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم: {ألا تتقون؟} وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟ وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة. فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم. وهكذا قال نوح لقومه. وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح: {إِني لكم رسول أمين}.. لا يخون ولا يخدع ولا يغش، ولا يزيد شيئاً أو ينقص شيئاً مما كلفه من التبليغ. {فاتقوا الله وأطيعون}.. وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله، ويحددها في هذه المرة، وينسبها إلى الله تعالى، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم. ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله، وما يطلب منهم أجراً جزاء هدايتهم إليه، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس. وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائماً ضرورياً للدعوة الصحيحة، تمييزاً لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد. وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائماً مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب. فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائماً متجردين، لا يطلبون أجراً على الهدى. فأجرهم على رب العالمين. وهنا يكرر عليهم طلب التقوى والطاعة، بعد اطئمنانهم من ناحية الأجر والاستغلال: {فاتقوا الله وأطيعون}.. ولكن القوم يطلعون عليه باعتراض عجيب. وهو اعتراض مكرور في البشرية مع كل رسول: {قالوا: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟}.. وهم يعنون بالأرذلين الفقراء. وهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة.
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} وقوم هود كانوا يسكنون الأحقاف، وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة من الطوفان الذي طهر وجه الأرض من العصاة. وقد وردت هذه القصة في الأعراف مفصلة وفي هود، كما وردت في سورة «المؤمنون» بدون ذكر اسم هود وعاد. وهي تعرض هنا مختصرة بين طرفيها: طرف دعوة هود لقومه، وطرف العاقبة التي انتهى إليها المكذبون منهم. وتبدأ كما بدأت قصة قوم نوح: {كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر، إن أجري إلا على رب العالمين}.. فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول: دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله. وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة، وترفع قيم الأرض الزائلة، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم. ثم يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة، والإعلان عن الثراء، والتكاثر والاستطالة في البناء؛ كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا، وما يسخرونه فيها من القوى، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته: {أتبنون بكل ريع آلهة تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون؟}.. والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنياناً يبدو للناظر من بعد كأنه علامة. وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثم سماه عبثاً. ولو كان لهداية المارة، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم: {تعبثون}.. فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد، وتنفق البراعة، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة. ويبدو كذلك من قوله: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أن عاداً كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغاً يذكر؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور، وتشييد العلامات على المرتفعات؛ وحتى ليجول في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشؤونه بوساطتها من البيان كافية لحمايتهم من الموت، ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء. ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.. فهم عتاة غلاظ، يتجبرون حين يبطشون؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش. شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون. وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله، لينهنه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة: {فاتقوا الله وأطيعون}.. ويذكرهم نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون، وكان الأجدر بهم أن يتذركوا فيشكروا، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم! {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)} إنها ذات الدعوة بألفاظها يدعوها كل رسول. ويوحد القرآن عن قصد حكاية العبارة التي يلقيها كل رسول على قومه للدلالة على وحدة الرسالة جوهراً ومنهجاً، في أصلها الواحد الذي تقوم عليه، وهو الإيمان بالله وتقواه، وطاعة الرسول الآتي من عند الله. ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف. إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة (وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك) ويخوفهم سلب هذه النعمة، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه: {أتتركون فيما ها هنا آمنين. في جنات وعيون. وزورع ونخل طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين؟}. وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح. ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه؛ ولا يتدبرون منشأه ومأتاه، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذا النعيم. فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته، ويخافوا زواله. وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية، وتنبه فيها الحرص والخوف: {أتتركون فيما ها هنا آمنين؟} أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة.. وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم.. أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت، ولا يزعجكم سلب، ولا يفزعكم تغيير؟ أتتركون في هذا كله من جنات وعيون، وزروع متنوعات، ونخل جيدة الطلع، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة، وفي أناقة وفراهة؟ وبعد أن يلمس قلوبهم هذه اللمسات الموقظة يناديهم إلى التقوى، وإلى الطاعة، وإلى مخالفة الملأ الجائرين البعيدين عن الحق والقصد، الميالين إلى الفساد والشر. {فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.. ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية، فلا تصغي لها ولا تلين: {قالوا: إنما أنت من المسحرين. ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين}.. إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهو يهرفون بما لا يعرفون! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون! {ما أنت إلا بشر مثلنا}.. وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول. فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيباً دائماً؛ وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشراً، وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)} تجيء قصة لوط هنا. ومكانها التاريخي كان مع قصة إبراهيم. ولكن السياق التاريخي ليس ملحوظاً في هذه السورة كما أسلفنا إنما الملحوظ وحدة الرسالة والمنهج، وعاقبة التكذيب: من نجاة للمؤمنين وهلاك للمكذبين. ويبدأ لوط مع قومه بما بدأ به نوح وهود وصالح. يستنكر استهتارهم؛ ويستجيش في قلوبهم وجدان التقوى، ويدعوهم إلى الإيمان والطاعة، ويطمئنهم إلى أنه لن يفجعهم في شيء من أموالهم مقابل الهدى. ثم يواجههم باستنكار خطيئتهم الشاذة التي عرفوا بها في التاريخ: {أتأتون الذكران من العالمين؟ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟ بل أنتم قوم عادون}. والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط (وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن) هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور، وترك النساء. وهو انحراف في الفطرة شنيع. فقد برأ الله الذكر والأنثى؛ وفطر كلاً منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل، الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى. فكان هذا الميل طرفاً من الناموس الكوني العام، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون على إنفاذ المشيئة المدبرة لهذا الوجود. فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف، ولا يحقق غاية، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه. وعجيب أن يجد فيه أحد لذة. واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق المشيئة. فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط. ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا، لخروجهم من ركب الحياة، ومن موكب الفطرة، ولتعريهم من حكمة وجودهم، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد. فلما دعاهم لوط إلى ترك هذا الشذوذ، واستنكر ما هم فيه من ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، والعدوان على الفطرة وتجاوز الحكمة المكنونة فيها.. تبين أنهم غير مستعدين للعودة إلى ركب الحياة، وإلى سنة الفطرة: {قالوا: لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين}. وقد كان فيهم غريباً. وفد عليهم مع عمه إبراهيم حين اعتزل أباه وقومه، وترك وطنه وأرضه، وعبر الأردن مع إبراهيم والقلة التي آمنت معه. ثم عاش وحده مع هؤلاء القوم حتى أرسله الله إليهم، ليردهم عما هم فيه، فإذا بهم يهددونه بالإخراج من بينهم، إذا لم ينته عن دعوتهم إلى سواء الفطرة القويم! عندئذ لم يبق إلا أن يعالنهم بكراهة ما هم عليه من شذوذ، في تقزز واستبشاع: {قال: إني لعملكم من القالين}.. والقلى: الكره البالغ. يقذف به لوط في وجوههم في اشمئزاز. ثم يتوجه إلى ربه بالدعاء أن ينجيه من هذا البلاء هو وأهله: {رب نجني وأهلي مما يعملون}.
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)} وهذه قصة شعيب ومكانها التاريخي قبل قصة موسى تجيء هنا في مساق العبرة كبقية القصص في هذه السورة. وأصحاب الأيكة هم غالباً أهل مدين. والأيكة الشجر الكثيف الملتف. ويبدو أن مدين كانت تجاورها هذه الغيضة الوريفة من الأشجار. وموقع مدين بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة. وقد بدأهم شعيب بما بدأ به كل رسول قومه من أصل العقيدة والتعفف عن الأجر، ثم أخذ يواجههم بما هو من خاصة شأنهم: {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. وقد كان شأنهم كما ذكر في سورتي الأعراف وهود أن يطففوا في الميزان والمكيال، وأن يأخذوا بالقسر والغصب زائداً عن حقهم، ويعطوا أقل من حق الناس، ويشتروا بثمن بخس ويبيعوا بثمن مرتفع. ويبدو أنهم كانوا في ممر قوافل التجارة، فكانوا يتحكمون فيها. وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط في هذا كله، لأن العقيدة الصحيحة يتبعها حسن المعاملة. ولا تستطيع أن تغضي عن الحق والعدل في معاملات الناس. ثم استجاش شعيب مشاعر التقوى في نفوسهم، وهو يذكرهم بخالقهم الواحد. خالق الأجيال كلها والسابقين جميعاً: {واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين}. فما كان منهم إلا أن يطلقوا عليه الاتهام بأنه مسحور، فهو يخلط ويهذي بما يقول: {قالوا: إنما أنت من المسحرين}.. وإلا أن يستنكروا رسالته. فهو بشر مثلهم، وما هكذا في زعمهم يكون الرسول. ويرمونه بالكذب فيما يقول: {وما أنت إلا بشر مثلنا. وإن نظنك لمن الكاذبين}. وإلا أن يتحدوه أن يأتيهم بما يخوفهم به من العذاب إن كان صادقاً فيما يدعيه؛ وأن يسقط عليهم رجوماً من السماء، أو يحطمها عليهم ويسقطها قطعاً: {فأسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين}.. وهو تحدي المستهتر الهازئ المستهين! وهو شبيه بتحدي المشركين للرسول الكريم.. {قال: ربي أعلم بما تعملون}.. ويعجل السياق بالنهاية دون تفصيل ولا تطويل. {فكذبوه. فأخذهم عذاب يوم الظلة. إنه كان عذاب يوم عظيم}.. قيل: أخذهم حر خانق شديد يكتم الأنفاس ويثقل الصدور. ثم تراءت لهم سحابة، فاستظلوا بها؛ فوجدوا لها برداً، ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية تفزعهم وتدمرهم تدميراً. وكان ذلك {يوم الظلة} فالظلة كانت سمة اليوم المعلوم! ثم يجيء التعقيب المكرور: {إِن في ذلك لآية. وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. ويختم القصص في السورة ليجيء على إثره التعقيب الأخير..
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} انتهى القصص وكله يعرض قصة الرسل والرسالات. وقصة التكذيب والإعراض. وقصة التحدي والعقاب. وقد بدأ هذا القصص بعد مقدمة السورة. والحديث فيها خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين. وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.. ثم سيق القصص، وكله نماذج للقوم يأتيهم أنباء ما كانوا يستهزئون. فلما انتهى القصص عاد السياق إلى موضوع السورة الذي تضمنته المقدمة؛ فجاء هذا التعقيب الأخير، يتحدث عن القرآن، فيؤكد أنه تنزيل رب العالمين ومنه هذا القصص الذي مضت به القرون، فإذا القرآن ينزل به من رب العالمين، ويشير إلى أن علماء بني إسرائيل يعرفون خبر هذا الرسول وما معه من القرآن، لأنه مذكور في كتب الأولين. إنما المشركون يعاندون الدلائل الظاهرة؛ ويزعمون أنه سحر أو شعر، ولو أن أعجمياً لا يتكلم العربية نزل عليه هذا القرآن فتلاه عليهم بلغتهم ما كانوا به مؤمنين. لأن العناد هو الذي يقعد بهم عن الإيمان لا ضعف الدليل! وما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما تتنزل بالأخبار على الكهان. وما هو كذلك بشعر، فإن له منهجاً ثابتاً والشعراء يهيمون في كل واد وفق الانفعالات والأهواء. إنما هو القرآن المنزل من عند الله تذكيراً للمشركين، قبل أن يأخذهم الله بالعذاب، وقبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.. {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين}.. والروح الأمين جبريل عليه السلام نزل بهذا القرآن من عند الله على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمين على ما نزل به، حفيظ عليه، نزل به على قلبه فتلقاه تلقياً مباشراً، ووعاه وعياً مباشراً. نزل به على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. هو لسان قومه الذي يدعوهم به، ويتلو عليهم القرآن. وهم يعرفون مدى ما يملك البشر أن يقولوا؛ ويدركون أن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وإن كان بلغتهم؛ وأنه بنظمه، وبمعانيه، وبمنهجه، وبتناسقه. يشي بأنه آت من مصدر غير بشري بيقين. وينتقل من هذا الدليل الذاتي إلى دليل آخر خارجي: {وإنه لفي زبر الأولين. أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}.. فقد وردت صفة الرسول الذي ينزل عليه القرآن، كما وردت أصول العقيدة التي جاء بها في كتب الأولين. ومن ثم كان علماء بني إسرائيل يتوقعون هذه الرسالة، وينتظرون هذا الرسول، ويحسون أن زمانه قد أظلهم؛ ويحدث بعضهم بعضاً بهذا كما ورد على لسان سلمان الفارسي، ولسان عبدالله بن سلام رضي الله عنهما والأخبار في هذا ثابتة كذلك بيقين. إنما يكابر المشركون ويعاندون لمجرد المكابرة والعناد، لا لضعف الحجة ولا لقصور الدليل؛ فلو جاءهم به أعجمي لا ينطق العربية فتلاه عليهم قرآناً عربياً ما آمنوا به، ولا صدقوه، ولا اعترفوا أنه موحى به إليه، حتى مع هذا الدليل الذي يجبه المكابرين: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين}.. وفي هذا تسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصوير لعنادهم ومكابرتهم في كل دليل. ثم يعقب على هذا بأن التكذيب مكتوب على القوم ملازم لهم بحكم عنادهم ومكابرتهم. فهكذا قضي الأمر أن يتلقوه بالتكذيب، كأنه طبع في قلوبهم لا يحول. حتى يأتيهم العذاب وهم في غفلة لا يشعرون: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}.. والتعبير يرسم صورة حسية لملازمة التكذيب لهم. فيقول: إنه على هذه الهيئة. هيئة عدم الإيمان والتكذيب بالقرآن. على هذه الهيئة نظمناه في قلوبهم وأجريناه. فهو لا يجري فيها إلا مكذباً به. ويظل على هيئته هذه في قلوبهم {حتى يروا العذاب الأليم}.. {فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}.. وقد بقي بعضهم فعلاً على هذا الوضع حتى فارق هذه الأرض بالقتل أو الموت، ومن ثم إلى العذاب الأليم.. وفي هذه اللحظة فقط يفيقون: {فيقولوا: هل نحن منظرون؟}.. هل نحن مؤجلون إلى فرصة أخرى، نصلح بها ما فات. وهيهات هيهات! ولقد كانوا يستعجلون عذاب الله، على سبيل الاستهزاء والاستهتار، واغتراراً بما هم فيه من متاع، يبلد حسهم، ويجعلهم يستبعدون النقلة منه إلى العذاب والنكال. شأنهم شأن ذوي النعمة قلما يخطر ببالهم أن تزول؛ وقلما يتصورون أن تحول. فهو يوقظهم هنا من هذه الغفلة، ويرسم لهم صورتهم حين يحل بهم ما يستعجلون: {أفبعذابنا يستعجلون؟ أفرأيت إن متعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}.. فيضع صورة الاستعجال بالعذاب في جانب. وفي الجانب الآخر تحقق الوعيد. وإذا سنون المتاع ساقطة كأنها لم تكن، لا تغني عنهم شيئاً، ولا تخفف من عذابهم. وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله يا رب» ثم يخوفهم بأن الإنذار مقدمة الهلاك. وأن رحمة الله ألا يهلك قرية حتى يبعث فيها رسولاً، يذكرها بدلائل الإيمان: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون. ذكرى. وما كنا ظالمين}.. ولقد أخذ الله على البشر عهد الفطرة أن يوحدوه ويعبدوه. والفطرة بذاتها تحس بوجود الخالق الواحد ما لم تفسد وتنحرف. وبث دلائل الإيمان في الكون، كلها يوحي بوجود الخالق الواحد. فإذا نسي الناس عهد الفطرة؛ وأغفلوا دلائل الإيمان، جاءهم نذير يذكرهم ما نسوا، ويوقظهم إلى ما أغفلوا. فالرسالة ذكرى تذكر الناسين وتوقظ الغافلين. زيادة في العدل والرحمة {وما كنا ظالمين} في أخذ القرى بعد ذلك بالعذاب والهلاك. فإنما هو جزاء النكسة عن خط الهدى ومنهج اليقين. ثم يبدأ معهم جولة جديدة عن القرآن الكريم: {وما تنزلت به الشياطين. وما ينبغي لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون}.. لقد قرر في الجولة الماضية أنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين؛ واستطرد مع تكذيبهم به، واستعجالهم ما يتوعدهم من عذاب فيه.. وها هو ذا ينفي دعواهم أنه من وحي الشياطين على طريقة الكهان، الذين كانوا يزعمون أن الشياطين تأتيهم بخبر الغيب، وبالسمع الذي يتكهنون فيه بالأخبار. وما يليق هذا القرآن بالشياطين. وهو يدعو إلى الهدى والصلاح والإيمان. والشياطين تدعو إلى الضلال والفساد والكفر. وما هم بمستطيعين أن يأتوا به. فهم معزولون عن سماع الوحي به من الله. إنما يتنزل به الروح الأمين، بإذن من رب العالمين. وليس هذا بميسور للشياطين. وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذره من الشرك وهو أبعد من يكون عنه ليكون غيره أولى بالحذر. ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين. ويأمره بالتوكل على الله، الذي يلحظه دائماً ويرعاه: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين. وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل: إني بريء مما تعملون. وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم}.. وحين يكون الرسول صلى الله عليه وسلم متوعداً بالعذاب مع المعذبين، لو دعا مع الله إلهاً آخر. وهذا محال ولكنه فرض للتقريب. فكيف يكون غيره؟ وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين؟! وليس هنالك محاباة، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول، لو ارتكب هذا الإثم العظيم! وبعد إنذار شخصه صلى الله عليه وسلم يكلف إنذار أهله. لتكون لمن سواهم عبرة، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون: {وأنذر عشيرتك الأقربين}.. روى البخاري ومسلم أنه «لما نزلت هذه الآية أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: يا صاحباه! فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» يا بني عبد المطلب. يا بني فهر. يا بني لؤي. أرأيتم لو أخبرتك أن خيلاً بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ «قالوا: نعم. قال:» فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد «. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: {تبت يدا أبي لهب وتب...}». وأخرج مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئاً. سلوني من مالي ما شئتم» «. وأخرج مسلم والترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال:» لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً. إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها «. فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين، ونفض يده من أمرهم، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئاً إذا لم ينفعهم عملهم، وأنه لا يملك لهم من الله شيئاً، وهو رسول الله.. وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم. كذلك يبين الله لرسوله كيف يعامل المؤمنين الذين يستجيبون لدعوة الله على يديه: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}.. فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة. صورة خفض الجناح، كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط. وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين طوال حياته. فقد كان خلقه القرآن. وكان هو الترجمة الحية الكاملة للقرآن الكريم. وكذلك بين الله له كيف يعامل العصاة فيكلهم إلى ربهم، ويبرأ مما يعملون: {فإن عصوك فقل: إني بريء مما تعملون}.. وكان هذا في مكة، قبل أن يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين. ثم يتوجه به صلى الله عليه وسلم إلى ربه، يصله به صلة الرعاية الدائمة القريبة: {وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم}. دعهم وعصيانهم، متبرئاً من أعمالهم، وتوجه إلى ربك معتمداً عليه، مستعيناً في أمرك كله به. ويصفه سبحانه بالصفتين المكررتين في هذه السورة: العزة والرحمة. ثم يشعر قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنس والقربى. فربه يراه في قيامه وحده للصلاة، ويراه في صفوف الجماعة الساجدة. يراه في وحدته ويراه في جماعة المصلين يتعهدهم وينظمهم ويؤمهم ويتنقل بينهم. يرى حركاته وسكناته، ويسمع خطراته ودعواته: {إنه هو السميع العليم}.. وفي التعبير على هذا النحو إيناس بالرعاية والقرب والملاحظة والعناية. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر أنه في كنف ربه، وفي جواره وقربه. وفي جو هذا الأنس العلوي كان يعيش.. والجولة الأخيرة في السورة حول القرآن أيضاً. ففي المرة الأولى أكد أنه تنزيل من رب العالمين. نزل به الروح الأمين. وفي المرة الثانية نفى أن تتنزل به الشياطين. أما في هذه المرة فيقرر أن الشياطين لا تتنزل على مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أمانته وصدقه وصلاح منهجه؛ إنما يتنزل على كل كذاب آثم ضال من الكهان الذين يتلقون إيحاءات الشياطين ويذيعونها مع التضخيم والتهويل: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم. يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}.. وكان في العرب كهان يزعمون أن الجن تنقل إليهم الأخبار، وكان الناس يلجأون إليهم ويركنون إلى نبوءاتهم. وأكثرهم كاذبون. والتصديق بهم جري وراء الأوهام والأكاذيب. وهم على أية حال لا يدعون إلى هدى، ولا يأمرون بتقوى، ولا يقودون إلى إيمان. وما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس بهذا القرآن إلى منهج قويم. ولقد كانوا يقولون عن القرآن أحياناً: إنه شعر، ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر. وهم في حيرتهم كيف يواجهون هذا القول الذي لا يعرفون له نظيراً، والذي يدخل إلى قلوب الناس، ويهز مشاعرهم، ويغلبهم على إرادتهم من حيث لا يملكون له رداً. فجاء القرآن يبين لهم في هذه السورة أن منهج محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج القرآن غير منهج الشعراء ومنهج الشعر أصلاً. فإن هذا القرآن يستقيم على نهج واضح، ويدعو إلى غاية محددة، ويسير في طريق مستقيم إلى هذه الغاية. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول اليوم قولاً ينقضه غداً، ولا يتبع أهواء وانفعالات متقلبة؛ إنما يصر على دعوة، ويثبت على عقيدة، ويدأب على منهج لا عوج فيه. والشعراء ليسوا كذلك. الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة. تتحكم فيهم مشاعرهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت. ويرون الأمر الواحد في لحظة أسود. وفي لحظة أبيض. يرضون فيقولون قولاً، ويسخطون فيقولون قولاً آخر. ثم هم أصحاب أمزجة لا تثبت على حال! هذا إلى أنهم يخلقون عوالم من الوهم يعيشون فيها، ويتخيلون أفعالاً ونتائج ثم يخالونها حقيقة واقعة يتأثرون بها. فيقل اهتمامهم بواقع الأشياء، لأنهم يخلقون هم في خيالهم واقعاً آخر يعيشون عليه! وليس كذلك صاحب الدعوة المحددة، الذي يريد تحقيقها في عالم الواقع ودنيا الناس. فلصاحب الدعوة هدف، وله منهج، وله طريق. وهو يمضي في طريقه على منهجه إلى هدفه مفتوح العين، مفتوح القلب، يقظ العقل؛ لا يرضى بالوهم، ولا يعيش بالرؤى، ولا يقنع بالأحلام، حتى تصبح واقعاً في عالم الناس. فمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الشعراء مختلفان، ولا شبهة هناك، فالأمر واضح صريح: {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟!}. فهم يتبعون المزاج والهوى ومن ثم يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى، الذين لا منهج لهم ولا هدف. وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول، وفق الانفعال الذي يسيطر عليهم في لحظة من اللحظات تحت وقع مؤثر من المؤثرات. وهم يقولون مالا يفعلون. لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة! إن طبيعة الإسلام وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية في الغالب لأن الشاعر يخلق حلماً في حسه ويقنع به. فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع. والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوّم. فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم، ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به، دفعهم إلى تغييرها، وتحقيق المنهج الذي يريد. ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهوّمة الطائرة. فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة، وفق منهجه الضخم العظيم. ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ. إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن. منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها. فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعراً وفناً؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها، وتدع واقع الحياة كما هو مشوهاً متخلفاً قبيحاً! وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية، وحين تنظر إلى الدينا فتراها من زاوية الإسلام، في ضوء الإسلام، ثم تعبر عن هذا كله شعراً وفناً.
|